فصل: سنة ثلاث ومائتين وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة أربع ومائتين وألف:

ودخلت سنة أربع ومائتين وألف في المحرم وصلت الأخبار بأن الموسقو آغا روا على عدة قلاع وممالك إسلامية منها جهات الأوزي، وكانت تغل على اسلامبول كالصعيد على مصر، وان الاسلامبول واقع بها غلاء عظيم.
وفي أواخره حضر واحد آغا وبيده مرسومات بسبب الأمراء القبليين بأنهم إن كانوا تعدوا الجهات التي صالحوا عليها حسن باشا، ولم يدفعوا المال ولا الغلال فلازم من محاربتهم ومقاتلتهم وإن لم يمتثلوا يخرجوا إليهم ويقاتلوهم، فإن السلطان أقسم بالله أنه يزيل الفريقين، ولا يقبل عذرهم في التأخير، فقرأوا تلك المرسومات في الديوان ثم أرسلوها مع مكاتبات صحبة واحد مصرلي، وآخر من طرف الآغا القادم بها وآخر من طرف الباشا.
وفي أوائل ربيع الأول رجع الرسل بجوابات من الأمراء القبليين ملخصها أنهم لم يتعدوا ما حدوده مع حسن باشا إلا بأوامر من عابدي باشا فإنه حدد لنا من منفلوط، ثم إسمعيل بك بنى حاجزاً وقلاعاً وأسواراً بطرا، وذلك دليل وقرينة على أن ما راء ذلك يكون لنا، وأنه اختص بالأقاليم البحرية وترك لنا الأقاليم القلبية ولا مزية للأمراء الكائنين بمصر علينا، فإنه يجمعنا وإياهم أصل واحد وجنس واحد، وإن كنا ظلمة فهم أظلم منا، وأما الغلال والمال فإننا أرسلنا لهم جانب غلال، فلم ترجع المراكب التي أرسلناها ثانياً فيرسلوا لنا مراكب، ونحن نعبيها ونرسلها، وذكروا أيضاً أنهم أرسلوا صالح آغا كتخدا الجاويشية سابقاً الى اسلامبول ونحن في انتظار رجوعه بالجواب، فعند رجوعه يكون العمل بمقتضى ما يأتي به من المرسومات، ولا نخالف أمر السلطان.
وفي شهر جمادى الأولى، وردت أخبار بعزل وزير الدولة وشيخ الإسلام وآغات الينكجرية ونفيهم، وأن حسن باشا، تولى الصدارة وهو بالسفر، وأنه محصور بمكان يقال له إسمعيل، لأن الموسقو أغاروا على ما وراء إسمعيل، وأخذوا ما بعده من البلاد، ثم أنه هادن الموسقو وصالحهم على خمسة أشهر الى خروج الشتاء، وأن السلطان أحضر الأمراء المصرلية الرهائن المنفيين بقلعة ليميا، وهم عبد الرحمن بك الابراهيمي وعثمان بك المرادي وسليمان كاشف، وأما حسين بك فإنه مات بليميا، ولما حضروا أنزلوهم في قناقات وعين لهم رواتب ويحضرهم السلطان في بعض الأحيان الى الميدان، ويعملوا رماحة بالخيول، وهو ينظر إليهم ويعجبه ذلك، ويعطيهم أنعاماً، وورد الخبر أيضاً أن صالح آغا وصل الى اسلامبول فصالح على الأمراء القبالي، وتم الأمر بواسطة نعمان أفندي نجم باشا ومحمود بك، وأرسلوا بالأوراق الى حسن باشا فحنق لذلك، ولم يمضه وانحرف علي نعمان أفندي ومحمود بك وأمر بعزلهما من مناصبهما ونفيهما وإخراجهما من دار السلطنة، فنفى نعمان أفندي الى أماسيه ومحمود بك الى جهة قريبة من اسلامبول، وشاط طبيخهم وسافر صالح آغا من اسلامبول، وفي شهر شعبان، ورد الخبر بموت حسن باشا، وكان موته في منتصف رجب، وكأنه مات مقهوراً من الموسقو.
وفي ثاني عشر رمضان، حصل زلزلة لطيفة في سادس ساعة من الليل.
وفيه أيضاً وصل ثلاثة أشخاص من الديار الرومية، فأخذوا ودائع كانت لحسن باشا بمصر، فتسلموها ممن كانت تحت أيديهم ورجعوا.
وفي ليلة الجمعة، ثالث عشر شوال قبل الفجر احترق بيت إسمعيل بك عن آخره.
وفي خامس عشرينه، عزل حسن كتخدا المحتسب من الحسبة، وقلدوها رضوان آغا محرم من وجاق الجاويشية، فأنهى حسن آغا أنه كان متكفلاً بجراية الجامع الأزهر، فإن كان المتولي يتكفل بها مثله، استمر فيها وإلا ردوا له المنصب وهو يقوم بها للمجاورين كما كان، فلما قالوا لرضوان آغا ذلك، فلم يسعه إلا القيام بذلك، وهي دسيسة شيطانية لا أصل، فإن أخبار الجامع الأزهر لها جهات بعضها معطل والناظر عليه علي بك الدفتردار وحسن آغا كتخداه يصل ويقطع من أي جهة أراد من الميري أو من خلافه، فدس هذه الدسيسة يريد بها تعجيز المتولي ليرجع إليه المنصب، ومعلوم أن المتولي لم يتقلد ذلك إلا برشوة دفعها ويلزم من نزوله عنها ضياع غرامته وجرسته بين أقرانه، فما وسعه إلا القيام بذلك، وفردها على مظالم الحسبة التي يأخذها من السوقة ويدفعها للخباز يصنع بها خبزاً للمجاورين، والمنقطعين في طلب العلم ليكون قوتهم وطعامهم من الظلم والسحت المكرر، وذلك نحو خمسة آلاف نصف فضة في كل يوم، واشتهر ذلك وعلمه العلماء والمجاورون وغيرهم، وربما طالبوه بالمنكسر أو اعتذروا بقولهم الضرورات تبيح المحظورات.
وفي ليلة السبت ثالث شهر الحجة الموافق لعاشر مسرى القبطي، أوفى النيل أذرعه وكسر السد بحضرة الباشا والأمراء على العادة، وجرى الماء في الخليج.
وفيه وقعت واقعة بين عسكر القليونجية والأرنؤدية بسوق السلاح، وقتل بينهم جماعة من الفريقين ثم تحزبوا أحزاباً، فكان كل من واجه حزباً من الطائفة الأخرى أو انفرد ببعض منها قتلوه، ووقع بينهم ما لا خير فيه وداخل الناس الخوف من ذلك، فيكون الإنسان ماراً بالطريق،فلا يشعر إلا وكرشة وطائفة مقبلة وبأيديهم البنادق والرصاص، وهم قاصدون طائفة من أخصامهم بلغهم أنهم في طريق من الطرق، واستمر هذا الأمر بينهم نحو خمسة أيام، ثم أدرك القضية إسمعيل بك وصالحهم.
وفي أواخره حضر جماعة من الأرنؤد الى بيت محمد آغا البارودي وقبضوا منه مبلغ دراهم من علوفتهم، ونزلوا عند الخليج المرخم وازدحموا في المركب فانقلب بهم، وغرق منهم نحو ستة أنفار وقيل تسعة وطلع من طلع في أسوأ حال.

.ذكر من مات في هذه السنة:

ومات في هذه السنة العلامة الرحالة الفهامة الفقيه المحدث المفسر المحقق المتبحر الصوفي الصالح الشيخ سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الشافعي الأزهري المعروف بالجمل، ويعرف أبوه وجده بشتت ولد بمنية عجيل إحدى قرى الغربية، وورد مصر، ولازم الشيخ الحفني فشملته بركته وأخذ عنه طريق الخلوتية، ولقنه الأسماء وأذن له واستخلفه وتفقه عليه، وعلى غيره من فضلاء العصر، مثل الشيخ عطية الأجهوري، ولازم دروسه كثيراً واشتهر بالصلاح وعفة النفس، ونوه الشيخ الحفني بشأنه وجعله إماماً وخطيباً بالمسجد الملاصق لمنزله على الخليج، ودرس بالأشرفية والمشهد الحسيني في الفقه والحديث والتفسير، وكثرت عليه الطلبة وضبطت من إملائه وتقريراته، وقرأ المواهب والشمائل وصحيح البخاري وتفسير الجلالين بالمشهد الحسيني بين المغرب والعشاء وحضره أكبر الطلبة ولم يتزوج وفي آخر أمره تقشف في ملبسه ولبس كساء صوف وعمامة صوف وطلساناً كذلك واشتهر بالزهد والصلاح ويتردد كثيراً لزيارات المشايخ والأولياء، ولم يزل على حاله حتى توفي في حادي عشر القعدة من السنة.
ومات الإمام الفاضل العلامة الصالح المتجرد القانع الصوفي الشيخ علي ابن عمر بن أحمد بن عمر بن ناجي بن فنيش العوني الميهي الشافعي الضرير نزيل طندتا، ولد بالميه إحدى قرى مصر وأول من قدمها جده فنيش، وكان مجذوباً من بني العونة العرب المشهورين بالبحيرة فتزوج بها وحفظ المترجم القرآن وقدم الجامع الأزهر وجوده على بعض القراء، واشتغل بالعلم على مشايخ عصره ونزل طندتاء فتديرها ودرس العلم بالمسجد المجاور وللمقام الأحمدي وانتفع به الطلبة، وآل به الأمر الى أن صار شيخ العلماء هناك، وتعلم عليه غالب من بالبلد علم التجويد وهو فقيه مجود ماهر حسن التقرير جيد الحافظة يحفظ كثيراً من النقول الغريبة وفيه أنس وتواضع وتقشف وانكسار وورد مصر في المحرم من هذه السنة، ثم عاد الى طندتاء وتوفي في ثاني عشر ربيع الأول من السنة ولم يتعلل كثيراً، ودفن بجانب قبر سيدي مرزوق من أولاد غازي في مقام مبني عليه رحمه الله تعالى.
ومات الفاضل التحرير الذي وقف الأدب عند بابه ولاذت أربابه بأعتابه النبيه النبيل واللوذعي الجليل قاسم بن عطاء الله المصري الأديب ولد بمصر وبها نشأ وقرأ في الفنون على بعض أهل عصره، وحفظ الملحة والألفية وغيرهما واشتهر بفن الأدب والتوشيخ والزجل، وكان يعرف أولاً بالزجال أيضاً لإتقانه فيه، وصار وحيد عصره في هذه الفنون بحيث لا يجاريه أحد مع ما لديه من الارتجال في الشعر مع غاية الحسن، وأما في فن التاريخ فإليه المنتهى مع السلاسة والتناسب وعدم التكلف فيه.
ومات الخواجا المعظم والناخودة المكرم الحاج أحمد آغا بن ملا مصطفى الملطيلي كان من أعيان التجار المشهورين وأرباب أهل الوجاهة المعتبرين عمدة في بابه عدة لأحبابه ومن يلوذ بجنابه وينتمي لسدته وأعتابه، محتشماً في نفسه، مبجلاً بين أبناء جنسه، توفي يوم الأربعاء ثاني عشرين القعدة ولم يخلف بعده مثله.
ومات صاحبنا النبيه المفوه الفصيح المتكلم الكاتب المنشئ حسين ابن محمد المعروف بدرب الشمسي وهو أحد أخوة حسن أفندي من بيت المجد والرياسة والشرف والفضيلة، وكان من نوادر العصر في الفصاحة واستحضار المسائل الغريبة والنكات والفوائد الفقهية الطبية، وعنده حرص على صيد الشوادر، وأدرك بمصر أوقاتاً ولذات في الأيام السابقة قبل أن يخرجهم علي بك من مصر في سنة اثنتين وثمانين ونفيهم الى الحجاز، وبعد رجوعهم في سنة سبع وثمانين ولكن دون ذلك، ولم يزل يرفل في حلل السيادة حتى تعلل نحو عشرين يوماً وتوفي في شهر رمضان من السنة وصلي عليه بمصلى أيوب بك ودفن عند أسلافه، وخلفه من بعده ابنه حسن جربجي الموجود الآن بارك الله فيه ورحم سلفه.
ومات العمدة المفضل والملاد المبجل الشيخ عبد الجواد بن محمد ابن عبد الجواد الأنصاري الجرجاوي الخير المكرم الجواد من بيت الثروة والفضل جدوده مالكية فتحنف، كان من أهل المآثر في إكرام الضيوف والوافدين وله حسن توجه مع الله تعالى وأوراد وأذكار وقيام الليل يسهر غالب ليله وهو يتلو القرآن والأحزاب وورد مصر مراراً وفي آخره انتقل إليها بعياله واشترى منزلاً واسعاً بحارة كتامة المعروفة الآن بالعينية وصار يتردد في دروس العلماء مع إكرامهم له ثم توجه الى الصعيد ليصلح بين جماعة من عرب العسيرات فقتلوه غيلة في هذه السنة رحمه الله تعالى.
ومات الأمير المبجل صالح فندي كاتب وجاق التفجية وهو من مماليك ابراهيم كتخدا القزدغلي نشأ من صغره في صلاح وعفة وحبب إليه القراءة وتجويد الخط فجوده على حسن أفندي الضيائي والأنيس وغيرهما حتى مهر فيه وأجازوه على طريقتهم واصطلاحهم، واقتنى كتباً كثيرة وكان منزله مأوى ذوي الفضائل والمعارف، وله اعتقاد حسن وحب في المرحوم الوالد ولا ينقطع عن زيارته في كل جمعة مرة أو مرتين، وكان مترهفاً في مأكله وملبسه معتبراً في ذاته وجيهاً منور الوجه والشيبة له من اسمه نصيب وعنده حزم ومماليكه أحمد مصطفى تمرض نحو سنة وعجز عن ركوب الخيل وصار يركب حماراً عالياً ويستند على أتباعه ولم يزل حتى توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى وانقضت هذه السنة.

.سنة ثلاث ومائتين وألف:

واستهلت سنة خمس ومائتين وألف في حادي عشر المحرم، ورد آغا وعلى يده تقرير لإسمعيل باشا على السنة الجديدة فعملوا له موكباً وطلع الى القلعة وقرئ المقرر بحضرة الجمع وضربوا له مدافع.
وفي ذلك اليوم قبض إسمعيل بك على المعلم يوسف كساب معلم الدواوين وأمر بتغريقه في بحر النيل.
وفي صبحها نفوا صالحا آغا آغات الأرنؤد قيل إن السبب في ذلك أنه تواطأ مع الأمراء القبالي بواسطة المعلم يوسف المذكور على أنه لم يملكهم المراكب الرومية والقلاع التي بناحية طرا والجيزة وعملوا له مبلغاً من المال التزم به الذمي يوسف وكتب على نفسه تمسكاً بذلك وفيه كثر تعدي أحمد آغا الوالي على أهل الحسينية وتكرر قبضه وإيذاؤه لأناس منهم بالحبس والضرب وأخذ المال بل ونهب بعض البيوت، وأرسل في يوم الجمعة ثاني عشرينه أعوانه بطلب أحمد سالم الجزار شيخ طائفة البيومية وله كلمة وصولة بتلك الدائرة وأرادوا القبض عليه فثارت طوائفه على أتباع الوالي ومنعوه منهم وتحركت حميتهم عند ذلك وتجمعوا وانضم إليهم جمع كثير من أهل تلك النواحي وغيرها وأغلقوا الأسواق والدكاكين وحضروا الى الجامع الأزهر ومعهم طبول وقفلوا أبواب الجامع وصعدوا على المنارات وهم يصرخون ويصيحون ويضربون على الطبول، وأبطلوا الدروس، فقال لهم الشيخ العروسي: أنا أذهب الى إسمعيل بك في هذا الوقت وأكلمه في عزل الوالي وتخلص منهم بذلك، وذهب الى إسمعيل بك فاعتذر بأن الوالي ليس من جماعته بل هو من جماعة حسن بك الجداوي وأمر بعض أتباعه بالذهاب إليه وإخباره بجمع الناس والمشايخ وطلبهم عزل الوالي، فلم يرض بذلك وقال إن كان أنا أعزل الوالي تابعي يعزل هو الآخر الآغا تابعه ويعزل رضوان كتخدا المجنون من المقاطعة ويرفع مصطفى كاشف من طرا ويطرد عسكر القليونجية والأرنؤد، وترددت بينهم الرسل بذلك، ثم ركب حسن بك وخرج الى ناحية العادلية مثل المغضب وصار أحمد آغا الوالي يركب بجماعة كثيرة ويشق من المدينة ليغيظ العامة وكذلك يجمع من العامة خلائق كثيرة ووقع بينه وبينهم بعض مناوشات في مروره وانجرح بينهم جماعة وقتل شخصان، ثم ركب المشايخ، وذهبوا الى بيت محمد أفندي البكري، وحضر هناك إسمعيل بك وطيب خاطرهم والتزم لهم بعزل الوالي ومر الوالي في ذلك الوقت على بيت الشيخ البكري وكثير من العامة مجتمع هناك، ففزع فيهم بالسيف وفرق جمعهم وسار من بينهم وذهب في طريقه ثم زاد الحال وكثرت غوغاء الناس ومشوا طوائف يأمرون بغلق الدكاكين واجتمع بالأزهر الكثير منهم، واستمرت هذه القضية الى يوم الثلاثاء ثالث صفر ثم طلع إسمعيل بك والأمراء الى القلعة واصطلحوا على عزل الوالي والآغا وجعلوهما صنجقين وقلدوا خلافهما الآغا من طرف إسمعيل بك والوالي من طرف حسن بك ونزل الوالي الجديد من الديوان الى الأزهر وقابل المشايخ الحاضرين واسترضاهم ثم ركب الى بيته وانفض الجمع وكأنها طلعت بأيديهم والذي كان راكب حماراً ركب فرساً.
وفي ليلة الجمعة خامس شهر صفر غيمت السماء غيماً مطبقاً وسحت أمطار غزيرة كأفواه القرب مع رعد شديد الصوت وبرق متتابع متصل قوي اللمعان يخطف بالأبصار مستديم الاشتعال واستمر ذلك بطول ليلة الجمعة ويوم الجمعة والأمطار نازلة حتى سقطت الدور القديمة على الناس ونزلت السيول من الجبل حتى ملأت الصحراء وخارج باب النصر وهدمت الترب وخسفت القبور وصادف ذلك اليوم دخول الحجاج الى المدينة فحصل لهم غاية المشقة وأخذ السيل صيوان أمير الحاج بما فيه وانحدر به من الحصوة الى بركة الحج وكذلك خيام الأمراء وغيرهم وسالت السيول من باب النصر ودخلت البلد وامتلأت الوكائل بالمياه وكذلك جامع الحاكم وقتلت أناس في حواصل الخانات وصار خارج باب النصر بركة عظيمة متلاطمة بالأمواج وانهدم من دور الحسينية أكثر من النصف وكان أمراً مهولاً جداً وفي حصل أيضاً كائنة عبد الوهاب أفندي بشناق الواعظ وذلك أنه مات رجل من البشانقة من أهل بلده وكأنه قد جعله وصياً على تركته فاستولى عليها واستأصلها وكان للرجل المتوفى شركة بناحية الإسكندرية فسافر المذكور الى الإسكندرية وحاز باقي التركة أيضاً ورجع الى مصر وحضر الوارث وطالبه بتركة مورثه فأظهر له شيئاً نزراً فذهب الوارث الى القاضي فدعاه القاضي وكلمه في ذلك فقال له أنا وصي مختار وأنا مصدق وليس عندي خلاف ما سلمته له فقال له القاضي إنه يدعي عليك بكذا وكذا وعنده إثبات ذلك وطال بينهما الكلام وتطاول على القاضي واستجهله فطلع القاضي الى الباشا وشكا له فأمر بإحضاره فحضر في جمع الديوان وناقشوه فلم يتزلزل عن عناده الى أن نسب الكل الى الانحراف عن الحق فحنق الباشا منه وأمر برفعه من المجلس فقبضوا عليه وجروه وضربوه ورموا بتاجه الى الأرض وحبسوه في مكان وصادف أيضاً ورود مكتوب من ناحية المدينة من مفتيها كان أرسله المذكور إليه لسبب من الأسباب وذكر فيه الباشا بقوله التعيس الحربي وكذلك الأمراء بنحو ذلك فأرسله المفتي وأعاده على يد بعض الناس الى إسمعيل بك حقداً منه عليه لكراهة خفية بينهما سابقة وأوصله إسمعيل بك أيضاً الى الباشا فازداد غيظاً وأرعد وأبرق وأحضر بشناق أفندي من محبسه وقت القائلة وأراه ذلك المكتوب فسقط في يده واعتذر فلطمه على وجهه ونتف لحيته وأراد أن يضربه بخنجره فشفع فيه أكابر أتباعه ثم أخذوه وسجنوه وأمر بمحاسبته على ما أخذه من التركة فحوسب وطولب وبقي بالحبس حتى وفى ما طلع عليه وشفع فيه علي بك الدفتردار وخلصه من الترسيم.
وفي أواخر صفر قلدوا أحمد بك الوالي المذكور كشوفية الدقهلية وعثمان بك الحسني الغربية وشاهين بك شرقية بلبيس وعلي بك جركس المنوفية وصار جماعة أحمد بك وأتباعه عند سفرهم يخطفون دواب الناس من الأسواق وخيول الطواحين ولما سرحوا في البلاد حصل منهم ما لا خير فيه من ظلم الفلاحين مما هو معلوم من أفعالهم.
وفي شهر ربيع الأول كمل بناء بيت إسمعيل بك وبياضه وأتمه على هيئة متقنة وترتيب في الوضع ونقل إليه قطع الأعمدة العظام التي كانت ملقاة في مكان الجامع الناصري الذي عند فم الخليج وجعلها في جدرانه وبنى به مقعداً عظيماً متسعاً ليس له مثيل في مقاعد بيوت الأمراء في ضخامته وعظمه وهو في جهة البركة وغرس بجانبه بستاناً عظيماً وظن أن الوقت قد صفا له.
وفي أواخر شهر جمادى الأولى أشيع في الناس أن في ليلة السابع والعشرين نصف الليل يحصل زلزلة عظيمة وتستمر سبع ساعات ونسبوا هذا القول الى أخبار بعض الفلكيين من غير أصل واعتقده الخاصة فضلاً عن العامة وصمموا على حصوله من غير دليل لهم على ذلك فلما كانت تلك الليلة خرج غالب الناس الى الصحراء والى الأماكن المتسعة مثل بركة الأزبكية والفيل وخلافهما ونزلوا في المراكب ولم يبق في بيته إلا من ثبته الله وباتوا ينتظرون ذلك الى الصباح فلم يحصل شيء وأصبحوا يتضاحكون على بعضهم.
وفيه ابتدأ أمر الطاعون وداخل الناس منه وهم عظيم.
وفيه قلدوا عبد الرحمن بك عثمان، وجعلوه صنجق الخزينة وشرعوا في تشهيله واجتهد إسمعيل بك في سفر الخزينة على الهيئة القديمة ولبس المناصب والسدادة وأرباب الخدم وقد بطل هذا الترتيب والنظام من نيف وثلاثين سنة فأراد إسمعيل بك إعادته ليكون له بذلك منقبة ووجاهة عند دولة بني عثمان فلم يرد الله بذلك وعاجله الرجز.
وفي شهر رجب زاد أمر الطاعون وقوي عمله بطول شهر رجب وشعبان وخروج عن حد الكثرة ومات به ما لا يحصى من الأطفال والشبان والجواري والعبيد والمماليك والأجناد والكشاف والأمراء ومن أمراء الألوف الصناجق نحو اثني عشر صنجقاً ومنهم إسمعيل بك الكبير المشار إليه وعسكر القليونجية والأرنؤد الكائنون ببولاق ومصر القديمة والجيزة حتى كانوا يجفرون حفر المن بالجيزة بالقرب من مسجد أبي هريرة ويلقونهم فيها وكان يخرج من بيت الأمير في المشهد الواحد الخمسة والستة والعشرة وازدحموا على الحوانيت في طلب العدد والمغسلين والحمالين ويقف في انتظار المغسل أو المغسلة الخمس والعشرة ويتضاربون على ذلك ولم يبق للناس شغل إلا الموت وأسبابه فلا تجد إلا مريضاً أو ميتاً أو عائداً أو معزياً أو مشيعاً أو راجعاً من صلاة جنازة أو دفن أو مشغولاً في تجهيز ميت أو باكياً على نفسه موهوماً ولا تبطل صلاة الجنائز من المساجد والمصليات ولا يصلي إلا على أربعة أو خمسة أو ثلاثة وندر جداً من يشتكي ولا يموت وندر أيضاً ظهور الطعن ولم يكن بحمى بل يكون الإنسان جالساً فيرتعش من البرد فيدثر فلا يفيق إلا مخلطاً أو يموت من نهاره أو ثاني يوم وربما زاد أو نقص أو كان بخلاف ذلك وكان شبيهاً بفصل البقر الذي تقدم واستمر عمله الى أوائل رمضان ثم ارتفع ولم يقع بعد ذلك إلا قليلاً نادراً ومات الآغا والوالي في أثناء ذلك فولوا خلافهما فماتا بعد ثلاثة أيام فولوا خلافهما فماتا أيضاً واتفق أن الميراث انتقل ثلاث مرات في جمعة واحدة ولما مات إسمعيل بك تنازل الرياسة حسن بك الجداوي وعلي بك الدفتردار ثم اتفقوا على تأمير عثمان بك طبل تابع إسمعيل بك على مشيخة البلد وسكن ببيت سيده وقلدوا حسن بك قصبة رضوان أمير حاج ثم أنهم أظهروا الخوف والتوبة والإقلاع وإبطال الحوادث والمظالم وزيادات المكوس ونادوا بذلك وقلدوا أمراء عوضاً عن المقبورين من مماليكهم.
في غرة رمضان حضر ططري وعلى يده مرسوم بعزل إسمعيل باشا وأن يتوجه الى الموره وأن باشة الموره محمد باشا الذي كان بجدة في العام الماضي المعروف بعزت هو والي مصر فعملوا الديون وقرئت المرسومات فقال الأمراء لا نرضى بذهابك من بلدنا وأنت أحسن لنا من الغريب الذي لا نعرفه فقال وكيف يكون العمل ولا يمكن المخالفة فقالوا نكتب عرضحال الى الدولة ونرجو تمام ذلك فقال لا يتم ذلك فإن المتولي كأنكم به وصل الى الإسكندرية وعزم على النزول صبح تاريخه ثم أنهم اتفقوا على كتابة عرضحال بسبب تركة إسمعيل بك خوفاً من حضور معين بسبب ذلك وعين للسفرية الشيخ محمد الأمير.
وفي يوم الخميس الخامس عشر رمضان، نزل الباشا من القلعة الى بولاق وقصد السفر على الفور وطلب المراكب وأنزل بها متاعه ويرقه فلما رأوا منه العجلة وعدم التأني وقصدهم تأخيره الى حضور الباشا الجديد ويحاسب على ما دخل في جهته فاجتمعوا عليه صحبة الاختيارية وكلموه في التأني فعارضهم وعاندهم وصمم على السفر من الغد فأغلظوا عليه في القول وقالوا له هذا غير مناسب يقال إن الباشا أخذ مال مصر وهرب فقال وأي شيء أخذته منكم قالوا له لابد من عمل حساب فإن الحساب لا كلام فيه ولابد من التأني حتى نعمل الحساب فقال أنا أبقي عندكم الكتخدا فحاسبوه نيابة عني والذي يطلع لكم في طرفي خذوه منه فلم يرضوا بذلك فقال أنا لابد من سفري إما اليوم أو غداً فقاموا من عنده على غير رضا وأرسلوا الوالي والآغا يناديان على ساحل البحر على المراكب بأن كل من سافر بشيء من متاع الباشا أو بأحد من أتباعه يستأهل الذي يجري عليه وطردوا النواتية من المراكب ولم يتركوا في كل مركب إلا شخصاً واحداً نوتياً فقط وتركوا عند بيت الباشا جماعة حراساً، وفي حضر خازندار الباشا الجديد وأخبر بوصول مخدومه الى ثغر الإسكندرية ومعه خلعة القائمقامية لعثمان بك طبل ومكاتبة الى الأمراء بعدم سفر الملاقاة وأرباب الخدم على العادة وأخبر أنه واصل الى رسيد بالبحر بالنقاير فنزل لملاقاته آغات المتفرقة فقط.
وفيه رفعوا مصطفى كاشف من طرا وعملوه كتخدا عثمان بك شيخ البلد.
وفيه أشيع بأن عبد الرحمن بك الابراهيمي حضر من طريق الشام ومر من خلف الجبل وذهب الى سيده بالصعيد.
وفي غرة شوال يوم الجمعة وليلة السبت، حضر الباشا الجديد الى ساحل بولاق فعملوا له اسقالة وركب الأمراء وعدوا الى بر انبابة وسلموا عليه وعدى صحبتهم وركب الى قصر العيني وأوكب في يوم الإثنين رابعه في موكب أقل من العادة بكثير الى القلعة من ناحية الصليبة وضربوا له مدافع من القلعة.
وفي ذلك اليوم سافر الشيخ محمد الأمير بالعرضحال وكانوا أخروا سفره الى أن وصل الباشا الجديد وغيروه بعد أن عرضوا عليه الأمر، ثم أنهم عملوا حساب الباشا المعزول فطلع عليه للباشا المتولي مائتا كيس من ابتداء منصبه وهو سابع عشر رجب وللأمراء مبلغ أيضاً فسدد ذلك بعضه أوراق وبعضه نقد وبعضه أمتعة وأذنوا له بالسفر فشرع في نزول متاعه بالمراكب بطول يوم الخميس والجمعة وأراد أن يسافر يوم السبت ففي تلك الليلة وصل بشلي من الروم وبيده مرسوم فعمل الباشا في صبحها ديواناً حضر فيه المشايخ والأمراء وأبرز الباشا المرسوم فكان مضمونه محاسبة الباشا المعزول من ابتداء شهر توت واستخلاص ما تأداه من ابتداء المدة فعند ذلك أرسلوا ثانية وحجروا عليه ونكتوا عزاله من المراكب وحبسوا النواتية ونادوا عليه ثاني مرة وذلك في سادس عشره.
وفيه تواردت الأخبار بأن الأمراء القبالي تحركوا الى الحضور الى مصر فإنه لما حصل ما حصل من موت إسمعيل بك والأمراء حضر مراد بك من أسيوط الى المنية وانتشر باقي الأمراء في المقدمة وعلى بعضهم الى الشرق ووصلت أوائلهم الى كفر العياط وأما ابراهيم بك فإنه لم يزل مقيماً بمنفلوط ومنتظراً ارتحال الحجاج ثم يسير الى جهة مصر فأرسلوا علي بك الجديد الى طرا عوضاً عن مصطفى كاشف وأرسلوا صالح بك الى الجيزة وأخذوا في الاهتمام.
وفيه حفر خندق من البحر الى المتاريس وفردوا فلاحين على البلاد للحفر مع اشتغالهم بأمور الحج ودعوا هم نقص مال الصرة وتعطيل الجامكية المضافة لدفتر الحرمين وتوجيه المعينين من القليونجية على الملتزمين.
وفي يوم الأحد رابع عشرينه حضر السيد عمر أفندي مكرم الأسيوطي بمكاتبة من الأمراء القبليين خطاباً الى شيخ البلد والمشايخ وللباشا سراً.
وفيه سافر إسمعيل باشا المنفصل من بولاق بعد أن أدى ما عليه.
وفي يوم الاثنين خامس عشرينه خرج المحمل صحبة أمير الحاج حسن بك قصبة رضوان، وفي يوم الثلاثاء اجتمعوا بالديوان عند الباشا، وقرئت المكاتبات الواصلة عن الأمراء القبليين، فكان حاصلها أننا في السابق طلبنا الصلح مع إخواننا والصفح عن الأمور السالفة فأبى المرحوم إسمعيل بك ولم يطمئن لطرفنا، ولك شيء نصيب والأمور مرهونة بأوقاتها والآن اشتقنا الى عيالنا وأوطاننا، وقد طالت علينا الغربة وعزمنا على الحضور الى مصر على وجه الصلح وبيدنا أيضاً مرسوم من مولانا السلطان، وصل إلينا صحبة عبد الرحمن بك بالعفو والرضا والماضي لا يعاد ونحن أولاد اليوم وأن أسيادنا المشايخ يضمنون غائلتنا فلما قرئت تلك المكاتبة التفت الباشا الى المشايخ العروسي إن كان التفاقم بينهم وبين أمرائنا المصرية الموجودين الآن فإننا نترجى عندهم وإن كان ذلك بينهم وبين السلطان فالأمر لنائب مولانا السلطان، ثم اتفق الرأي على مكاتبة جواب حاصله أن الذي يطلب الصلح يقدم الرسالة بذلك قبل قدومه وهو بمكانه وذكرتم أنكم تائبون وقد تقدم منكم هذا القول مراراً ولم نر له أثراً فإن شرط التوبة رد المظالم وأنتم لم تفعلوا ذلك ولم ترسلوا ما عليكم من الميري في هذه المدة فإن كان الأمر كذلك فترجعوا الى أماكنكم وترسلوا المال والغلال ونرسل عرضحال الى الدولة بالإذن لكم فإن الأمراء الذين بمصر لم يدخلوها بسيفهم ولا بقوتهم وإنما السلطان هو الذي أخرجكم وأدخلهم وإذا حصل الرضا فلا مانع لكم من ذلك فإننا الجميع تحت الأمر وعلم على ذلك الجواب الباشا والمشايخ وسلموه الى السيد عمر وسافر به في يوم الثلاثاء المذكور، ثم اشتغلوا بمهمات الحج وادعوا نقص مال الصرة ستين كيساً ففردوها على التجار ودكاكين الغورية، وارتحل الحاج من الحصوة وصحبته الركب الفاسي وذلك يوم السبت غايته وبات بالبركة، وارتحل يوم الأحد غرة ذي القعدة.
وفي ذلك اليوم عملوا الديوان بالقلعة ورسموا بنفي من كان مقيماً بمصر من جماعة القبليين، فنفوا أيوب بك الكبير وحسن كتخدا الجربان الى طندتا وكتبوا فرماناً بخروج الغريب وفرماناً آخر بالأمن والأمان وأخذهما الوالي والآغا ونادوا بذلك في صبحها في شوارع البلد، ونبهوا على تعمير الدروب وقفل أبواب الأطراف وأجلسوا عند كل مركز حراساً.
وفي يوم الخميس نزل الآغا وأمامه المناداة بفرمان على الأجناد والطوائف والمماليك بالخروج الى الخلاء.
وفيه وصل قاصد من الديار الرومية وهو آغا معين بطلب تركة إسمعيل بك وباقي الأمراء الهالكين بالطاعون فأنزلوه ببيت الزعفراني وكرروا المناداة بالخروج الى ناحية طرا، وكل من تاجر بعد الظهر يستحق العقوبة.
وفي تلك الليلة وقت المغرب، طلع الأمراء الى الباشا وأشاروا عليه بالنزول والتوجه الى ناحية طرا، فنزل في صبحها وخرج الى ناحية طرا كما أشاروا عليه وكذلك خرج الأمراء وطاف الآغا والوالي بالشوارع وهما يناديان على الألضاشات المنتسبين الى الوجاقات بالصعود الى القلعة والباقي بالخروج الى متاريس الجيزة، وطلع الأوده باشا والاختيارية وجلسوا في الأبواب.
وفي يوم السبت، أشيع أن الأمراء القبليين يريدون التخريم من وراء الجبل الى جهة العادلية فخرج أحمد بك وصالح بك تابع رضوان بك الى جهة العادلية وأقاموا هناك للمحافظة بتلك الجهة وأرسلوا أيضاً الى عرب العائد فحضروا أيضاً هناك.
وفيه وصل القبليون الى حلوان ونصبوا وطاقهم هناك وأخذ المصريون حذرهم من خلف متاريس طرا.
وفي يوم الثلاثاء توجه المشايخ الى ناحية طرا وسلموا على الباشا والأمراء ورجعوا وذلك بإشارة الأمراء ليشاع عند الأخصام، أن الرعية والمشايخ معهم وبقي الأمر على ذلك الى يوم الثلاثاء التالي.
وفي صبح يوم الأربعاء، نزل الآغا والوالي وأمامهم المناداة على الرعية والعامة الكافة بالخروج في صبح يوم الخميس صحبة المشايخ، ولا يتأخر أحد وحضر الشيخ العروسي الى بيت الشيخ البكري وعملوا هناك جمعية وخرج الآغا من هناك ينادي في الناس ووقع الهرج والمرج، وأصبح يوم الخميس فلم يخرج أحد من الناس، وأشيع أن الأمراء القبليين نزلوا أثقالهم في المراكب وتمنعوا الى قبلي ويقولون إن قصدهم الرجوع، وبقي الأمر على السكوت بطول النهار والناس في بهتة والأمراء متخيلون من بعضهم البعض، وكل من علي بك الدفتردار وحسن بك الجداوي يسيء الظن بالآخر ولم يخطر بالبال مخامرة عثمان بك طبل، ولا الباشا فإن عثمان بك تابع إسمعيل بك الخصم الكبير، وقد تعين عوضه في إمارة مصر ومشيختها والباشا لم يكن من الفريقين، فلما كان الليل تحول الباشا والأمراء وخرجوا الى ناحية العادلية وأخرجوا شركفلك صحبتهم، وجملة مدافع وعملوا متاريس، فما فرغوا من عمل ذلك، إلا ضحوة النهار من يوم الجمعة وهم واقفون علي الخيول، فلم يشعروا إلا والأمراء القبالي نازلون من الجبل بخيولهم ورجالهم لكنهم في غاية الجهد والمشقة، فلما نزلوا وجدوا الجماعة والمتاريس أمامهم، فتشاور المصريون مع بعضهم في الهجوم عليهم فلم يوافق عثمان بك على ذلك، وثبطهم عن الإقدام ورجعوا جميع الحملة الى مصر، ووقفوا على جرائد الخيل فتمنع القبليون وتباعدوا عنهم، ونزلوا عند سبيل علام يأخذون لهم راحة حتى يتكاملوا فلما تكاملوا ونصبوا خيامهم واستراحوا الى العصر ركب مصطفى كاشف صهر حسن كتخدا علي بك وهو من مماليك محمد بك الالفي وصحبته نحو خمسة مماليك، وذهب الى سيده، ثم ركب محمد بك المبدول أيضاً بأتباعه، وذهب الى مراد بك لأنه في الأصل من أتباعه، ثم ركب مصطفى كاشف الغزاري وهو أخو عثمان بك طبل شيخ البلد، وذهب أيضاً إليهم واستوثق لأخيه فكتب له ابراهيم بك بالحضور، فلم يتمكن من الحضور إلا بعد العشاء الأخيرة حتى انفرد عن حسن بك وعلي بك فلما فعل ذلك وفارقهما سقط في أيديهما وغشي على علي بك، ثم أفاق وركب مع حسن بك وصناجقه، وهم عثمان بك وشاهين بك وسليم بك المعروف بالدمرجي الذي تآمر عوضاً عن علي بك الحبشي ومحمد بك كشكش وصالح بك الذي تآمر عوضاً عن رضوان بك العلوي وعلي بك الذي تآمر عوضاً عن سليم بك الاسماعيلي، وذهب الجميع من خلف القلعة على طريق طرا وذهبوا الى قبلي حيث كانت أخصامهم فسبحان مقلب الأحوال، ولما حضر عثمان بك وقابل ابراهيم بك أرسله مع ولده مرزوق بك الى مراد بك فقابله أيضاً، ثم حضرت إليهم الوجاقلية والاختيارية وقابلوهم وسلموا عليهم وشرع أتباعهم في دخول مصر بطول ليلة السبت حادي عشرين شهر القعدة، ولما طلع النهار دخلت أتباعهم بالحملات والجمال شيء كثير جداً، ثم دخل ابراهيم وشق المدينة ومعه صناجقه ومماليكه وأكثرهم لابسون الدروع، ثم دخل بعده سليمان بك والآغا وأخوه ابراهيم بك الوالي، ثم عثمان بك الشرقاوي وأحمد بك الكلارجي وأيوب بك الدفتردار ومصطفى بك الكبير وعلي آغا وسليم آغا وقائد آغا وعثمان بك الأشقر الابراهيمي وعبد الرحمن بك الذي كان باسلامبول وقاسم بك الموسقو وكشافهم وأغواتهم وأما مراد بك فإنه دخل من على طريق الصحراء، ونزل على الرميلة وصحبته عثمان بك الاسماعيلي شيخ البلد وأمراؤه وهم محمد بك الألفي وعثمان بك الطنبرجي الذي كان باسلامبول أيضاً وكشافهم وأغواتهم، واستمر انجرارهم الى بعد الظهر خلاف من كان متأخراً أو منقطعاً، فلم يتم دخولهم إلا في ثاني يوم وأما مصطفى آغا الوكيل فإنه التجأ الى الباشا، وكذلك مصطفى كاشف طرا فأخذهما الباشا صحبته وطلعا الى القلعة ودخل الأمراء الى بيوتهم وباتوا بها ونسوا الذي جرى وأكثر البيوت كان بها الأمراء الهالكون بالطاعون وبقي بها نساؤهم ومات غالب نساء الغائبين، فلما رجعوا وجدوها عامرة بالحريم والجواري والخدم فتزوجوهن وجددوا فراشهم وعملوا أعراسهم ومن لم يكن له بيت دخل ما أحب من البيوت وأخذه بما فيه من غير مانع وجلس في مجالس الرجال وانتظر تمام العدة إن كان بقي منها شيء، وأورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم وأزواجهم.
وفي يوم الأحد، ركب سليم آغا ونادى على طرئفة القليونجية والأرنؤد والشوام بالسفر ولا يتأخر أحد، وكل من وجد بعد ثلاثة أيام استحق ما ينزل به ثم أن المماليك صاروا كل من صادفوه منهم أو رأوه أهانوه وأخذوا سلاحه فاجتمع منهم طائفة وذهبوا الى الباشا فأرسل معهم شخصاً من الدلاة أنزلهم الى بولاق في المراكب وصار أولاد البلد والصغار يسخرون بهم ويصفرون عليهم بطول الطريق وسكن مراد بك ببيت إسمعيل بك وكأنه كان يبنيه من أجله.
وفي يوم الإثنين، أيضاً طاف الآغا وهو ينادي على القليونجية والأرنؤد.
وفي يوم الخميس سادس عشرينه، صعد الأمراء الى القلعة وقابلوا الباشا وكانوا يروه ولم يرهم قبل ذلك اليوم فخلع عليهم الخلع ونزلوا من عنده وشرعوا في تجهيز تجريدة الى الهاربين لأنهم حجزوا ما وجدوه من مراكبهم وأمتعتهم وكتب الباشا عرضحال في ليلة دخولهم وأرسله صحبة واحد ططري الى الدولة بحقيقة الحال وعينوا التجريدة ابراهيم بك الوالي وعثمان بك المرادي متقلداً إمارة الصعيد وعثمان بك الأشقر، وأحضر مراد بك حسن كتخدا علي بك بأمان وقابله وقيده بتشهيل التجريدة وعمل البقسماط ومصروف البيت من اللحم والخبز والسمن وغير ذلك، ووجه عليه المطالب حتى صرف ما جمعه وحواه وباع متاعه وأملاكه ورهنها واستدان، ولم يزل حتى مات بقهره وقلدوا علي آغا مستحفظان سابقاً وجعلوه كتخدا الجاويشية.
وفي حادي عشرين شهر الحجة الموافق لسابع عشر مسرى القبطي، أوفى النيل أذرعه ونزل الباشا الى قصر السد، وحضر القاضي والأمراء وكسر السد بحضرتهم وعملوا الشنك المعتاد وجرى الماء في الخليج ثم توقفت الزيادة، ولم يزد بعد الوفاء إلا شيئاً قليلاً ثم نقص واستمر يزيد قليلاً وينقص الى الصليب فضجت الناس وتشحطت الغلال وزاد سعرها وانكبوا على الشراء، ولاحت لوائح الغلاء.
وفيه أيضاً شرع الأمراء في التعدي على أخذ البلاد من أربابها من الوجاقلية وغيرهم وأخذوا بلاد أمير الحاج.
وفيه صالح الباشا الأمراء على مصطفى آغا الوكيل وأخلوا له داره، وقد كان سكن بها عثمان بك الأشقر فأخلاه له ابراهيم بك، ونزل من القلعة إليه ولازم ابراهيم بك ملازمة كلية وكذلك مصطفى كاشف الذي كان بطرا لازم مراد بك واختص به وصار جليسه ونديمه.